الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد،
كم من مرة تعرضتَ لعشرات الخيارات بين أمور تُقدِم عليها، وأمور تُحجِم عنها، فهذا مقبل على زواج... هل يُتِمه أم لا؟ وآخر تُعرض عليه وظيفة... هل يتقدم لها أم لا؟ وغير ذلك كثير!! والناس أمام هذه الاختيارات يعيشون في هَـمِِّ عظيم، فهم قبل الاختيار يعيشون في حيرة وقلق واضطراب؛ لعدم علمه أين الخير، هل هو في الإقدام على هذا الأمر أم في الإحجام عنه؟ ثم هو إذا عزم أمره واختار، وقع في همِ آخر، وهو هم الندم والتأسف، والتوجع، وعدم الرضا، ويفتح على نفسه باباً واسعاً للشيطان لكي يسخطه على قدر الله -سبحانه وتعالى- فيقول: لو كنت اخترت غير هذا الأمر لكان خيراً لي!!
لكن إن استخار ربه ارتاح من هذين الهمين... همِ الحيرة قبل الاختيار، وهمِ الندم والحسرة بعد الاختيار؛ لأنك عندما تستخير ربك لا تختار بحولك وقوتك، لكن تختار بحول وقوة العليم القدير، ثم تكون بعد الاستخارة راضياً مطمئناً، سواء وُفـِّقت أو لم تُوفق لما تُريد، لكمال رضاك بما اختاره لك مولاك، ويقينك التام أنه لا يختار لك إلا ما فيه الخير لك في دينك ودنياك.
وليس معنى الاستخارة هو التواكل عليها، أو انتظار رؤيا أو منام، أو أن تتوقع تيسير للأسباب بطرق خارقة وغير عادية -وإن كان قد يقع مثل هذا-، بل بعد الاستخارة عمل دءوب وسعي في الأخذ بالأسباب، فإن لم يُقدَّر أو قُدِر هذا الأمر أيقنت كل اليقين أن الخير كل الخير هو في هذا المنع أو العطاء.
ومن الناس من يكون مع الاستخارة بَيْن أمرين، إما أن ينسوها، ولا يعملون بها، ويعتمدون على أنفسهم في اختياراتهم، أو أنهم يتذكرونها، ولكن لا يقومون بها على الوجه الصحيح، فيكون حالهم كحال المستخير، لكنهم لا يستخيرون ربهم على الحقيقة، بل يذكرون دعاء الاستخارة ككلمات ينبغي أن تقال وفقط؛ ولا يستحضرون حقيقتها ومعانيها.
لذلك هيا بنا نقف لنتدبر بعض معاني هذا الدعاء العظيم ممن أوتي جوامع الكلم -صلى الله عليه وسلم- فعن جابر -رضي الله عنه- قال: (كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يعلمنا الاستخارة في الأمور كلها كما يعلمنا السورة من القرآن يقولإذا هم أحدكم بالأمر فليركع ركعتين من غير الفريضة ثم ليقل اللهم إني أستخيرك بعلمك وأستقدرك بقدرتك وأسألك من فضلك العظيم فإنك تقدر ولا أقدر وتعلم ولا أعلم وأنت علام الغيوب اللهم إن كنت تعلم أن هذا الأمر خير لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري -أو قال عاجل أمري وآجله- فاقدره لي ويسره لي ثم بارك لي فيه وإن كنت تعلم أن هذا الأمر شر لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري -أو قال عاجل أمري وآجله- فاصرفه عني واصرفني عنه واقدر لي الخير حيث كان ثم أرضني بهقال ويسمي حاجته) رواه البخاري وغيره.
- لاحظ معي قول الراوي: في (الأمور كلها)، وقوله -صلى الله عليه وسلم-: (إذا هم أحدكم بالأمر) يعني أي أمر لتعلم أن الاستخارة تشمل الأمور كلها صغيرها وكبيرها، حقيرها وعظيمها؛ لأنه رُبَّ أمرٍ حقيرٍ ترتب عليه أمور عظيمة، والعلم عند الله،
- ثم إن الاستخارة تكون في الأمور كلها، حتى لو تيقنت برأيك القاصر العاجز أن الخير كل الخير فيما تهم به وما تنوي فعله، لأنك لا تعلم الغيب (وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ)(البقرة:216)، وإن كان تعلق الاستخارة هو بالأمور المباحة أو في المفاضلة بين المستحبات، فالاستخارة لا تكون في فعل واجب أو ترك محرم.
- ثم انظر معي إلى تعليم النبي -صلى الله عليه وسلم- لهم الاستخارة كما يعلمهم السورة من القرآن ضبطاً وحفظاً؛ لعظيم حاجتهم إليها، كما يحتاجون إلى السورة من القرآن في الصلاة، لتعلم أي شرف وأي مكانة عظيمة لهذا الدعاء المبارك عند النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه، وتعلم كذلك مدى تقصيرنا وتفريطنا في حفظه والاهتمام به.
ثم تأمل معي كيف أنك قبل أن تبدأ هذا الدعاء تركع ركعتين؛ ليكونا لك مفتاحاً للدخول على الملك والقرب منه (وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ)(العلق: 19)، ففي هاتين الركعتين من حسن الثناء على الله، والتذلل بين يديه، وتطهير القلب من التوجه إلى غيره أو الاعتماد عليه، وتقديم عمل صالح يكون سبيلاً لتوطئة بين يدي هذا الدعاء المبارك.
وقولك بعدهما: (اللهم إني أستخيرك) أي أطلب الخير والخيرة منك، ففيه إشعار بأن تفرغ قلبك من أي إرادة ورغبة لهذا الأمر، فالكل عندك سواء، وما تريده هو ما يختاره لك مولاك، لاعتقادك تمام الاعتقاد أن الخير فيما يختاره لك الله، فكن صادقاً في طلب الخير والخيرة من الله، ولا تعتقد خيراً فيما تريده أو تهم به، بل لا خير إلا فيما يختاره -سبحانه وتعالى-.
ثم بعد ذلك تتوسل بصفتين عظيمتين من صفات الله، وهما العلم والقدرة؛ ليكون فيه من تمام الأدب في الدعاء أن تبدأ بالثناء على الله بما هو أهله، وبما يناسب مقامك من احتياجك لصفة العلم المحيط، ليعلمك بالخير فيما تقدم عليه، والقدرة التامة ليوفقك إلى فعل هذا الخير.
- ثم تقوم بعد ذلك بعقد هذه المقارنة بين علم الله وعلمك، وقدرة الله وقدرتك؛ لكي تتعلم فائدة عظيمة وهي على من تتوكل؟ وبمن تثق؟ وعلى من تعتمد؟ ومن تستخير؟
من هو الركن الركين الذي تأوي إليه إذا حلَّ بك كرب أو مرت بك مشكلة؟
إن ربك غني، مالك خزائن السموات والأرض، جواد، ماجد كريم، يحب أن يعطي، ذو الفضل العظيم وذو الفضل الكبير، سحَّاء الليل والنهار، دائم الصب على عباده، يده ملأى لا تغيضها نفقة، لو أن أهل سماواته وأهل أرضه، إنسهم وجنهم، سألوه فأعطاهم لم يغض ذلك ما في يمينه إلا كما ينقص المخيط إذا غمس في البحر. وهو الرزاق... (وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ)(هود:6).
عليم حكيم، قدير قدرة تامة لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، بيده كل شيء، وإليه يرجع كل أمر، إنما قوله إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون، هذا هو ربك فهل عرفته؟
كل ما سوى الله فهو عارٍ عن ذلك متصف بضده، فكل الخلق فقراء، ضعفاء، أذلاء، لا يملكون لأنفسهم -فضلاً عن غيرهم- شيئاً، عندهم الشح والبخل، كلهم يفنى ويموت، كلهم محتاجون مقهورون، موصوفون بالجهل والظلم والعجز. هذا هو وصف الخلق فهل عرفتهم؟
فإذا عرفت ربك، وعرفت نفسك والخلق من حولك، فلمن تلجأ؟ ولمن تركن؟ وعلى من تتوكل؟ وإلى من تشتكي وتأوي؟ (وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ)(الفرقان: 58).
- إنك بهذه المقارنة تخلص إلى جواب لهذا السؤال:
لماذا ننسى الاستخارة في كل أمر من أمورنا؟ لأننا نعتمد على علمنا وقدرتنا، وخيرتنا التي هي في علم الله وقدرته كلا شيء، فيكلنا الله إلى أنفسنا فَنُحرَم التوفيق والسداد، إن أكبر فائدة تتعلمها من هذا الدعاء المبارك هو توكلك على ربك في كل أمر من أمورك، وألا تلتفت بقلبك إلى الخلق أبداً (وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ)(آل عمران: 122).
- ثم انظر كيف أنك تبدأ بأمر الدين في قولك: (خير لي في ديني)، لأن أغلب من يستخير يريد الخير في الدنيا، وينسى هل هذا سوف يضر بآخرته أم لا؟! حاله حال من قال الله فيه: (فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آَتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآَخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ)(البقرة:200).
فأعد ترتيب أولوياتك كما رتبها لك النبي -صلى الله عليه وسلم- في هذا الدعاء العظيم، وعظـِّم أمر الدين في قلبك، وارض باختيار الله لك حتى ولو أضر بدنياك، فلعله خير لك في دينك، فأي خير تظن أنك ستحصله إذا حزت خير الدنيا كله ثم فقدت دينك.
فهذا هو المصاب الأعظم والمفقود الذي لا يعوض، وهذا ما كان يستعيذ منه النبي -صلى الله عليه وسلم- فيقول: (ولا تجعل مصيبتنا في ديننا) رواه الترمذي، وصححه الألباني، ولا تحزن فكل حال المؤمن له خير، إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له.
- هذه بعض المعاني المتعلقة بهذا الدعاء المبارك، وإن كان هناك الكثير والكثير من الفوائد والعبر عند التأمل والنظر.
والله المقصود من وراء ذلك، وهو حسبنا ونعم الوكيل. وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.