إن الدخول في الإسلام لا يتم إلا بالبراءة من كل أنواع الشرك والكفر والبراءة من جميع المشركين والكفار
|
إن المرء لا يدخل في الإسلام إلا بالاعتقاد الجازم واليقيني أن الإسلام هو الدين الحق ، وأن ما خالفه في قليل أو كثير فهو دين باطل ، وباعتقاد أن من حقق الإسلام فهو على الدين الحق ، وأن كل من خالفه في قليل أو كثير هو على دين باطل .
فلا يكفي للدخول في الإسلام توحيد الله عز وجل ، والتصديق بنبيه صلى الله عليه وآله وسلم دون متابعة هذا الدين . وأدل دليل على ذلك اليهود الذين كانوا يقرون لله بالوحدانية ويعرفون أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم صادق ومرسل من عند ربه سبحانه وتعالى ، لكن لم يتابعوه ، لأن متابعته صلى الله عليه وآله وسلم تعني التبرؤ من كل ما يخالف الإسلام ومن كل من يخالفه ، لذا شق عليهم الدخول في الإسلام .
أخرج الإمام الترمذي في سننه عَنْ صَفْوَانَ بْنِ عَسَّالٍ قَالَ : قَالَ يَهُودِيٌّ لِصَاحِبِهِ : اذْهَبْ بِنَا إِلَى هَذَا النَّبِيِّ ، فَقَالَ صَاحِبُهُ : لاَ تَقُلْ نَبِيٌّ إِنَّهُ لَوْ سَمِعَكَ كَانَ لَهُ أَرْبَعَةُ أَعْيُنٍ ، فَأَتَيَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَسَأَلاَهُ عَنْ تِسْعِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ . فَقَالَ لَهُمْ : « لاَ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ شَيْئًا ، وَلاَ تَسْرِقُوا ، وَلاَ تَزْنُوا ، وَلاَ تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ، وَلاَ تَمْشُوا بِبَرِيءٍ إِلَى ذِي سُلْطَانٍ لِيَقْتُلَهُ ، وَلاَ تَسْحَرُوا ، وَلاَ تَأْكُلُوا الرِّبَا ، وَلاَ تَقْذِفُوا مُحْصَنَةً ، وَلاَ تُوَلُّوا الْفِرَارَ يَوْمَ الزَّحْفِ ، وَعَلَيْكُمْ خَاصَّةً الْيَهُودَ أَنْ لاَ تَعْتَدُوا فِي السَّبْتِ ». قَالَ فَقَبَّلُوا يَدَهُ وَرِجْلَهُ فَقَالاَ : نَشْهَدُ أَنَّكَ نَبِيٌّ ، قَالَ : « فَمَا يَمْنَعُكُمْ أَنْ تَتَّبِعُونِي ». قَالُوا : إِنَّ دَاوُدَ دَعَا رَبَّهُ أَنْ لاَ يَزَالَ فِي ذُرِّيَّتِهِ نَبِيٌّ ، وَإِنَّا نَخَافُ إِنْ تَبِعْنَاكَ أَنْ تَقْتُلَنَا الْيَهُودُ (سنن الترمذي في كتاب الاستئذان / باب مَا جَاءَ فِى قُبْلَةِ الْيَدِ وَالرِّجْلِ ، قال الإمام الترمذي : هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ ، ط. المكنز ( ص 826-827 ، حديث رقم 2952 ) ، ط. أحمد شاكر ( ص 77 ، حديث رقم 2733) .) .
قال الإمام شمس الدين ابن قيم الجوزية (691-751هـ) : ( فإنما لم يحكم لهؤلاء اليهود الذين شهدوا له بالرسالة بحكم الإسلام ، لأن مجرد الإقرار ، والإخبار بصحة رسالته لا يوجب الإسلام ، إلا أن يلتزم طاعته ، ومتابعته ، وإلا فلو قال أنا أعلم أنه نبي ولكن لا أتبعه ولا أدين بدينه كان من أكفر الكفار كحال هؤلاء المذكورين وغيرهم ، وهذا متفق عليه بين الصحابة والتابعين وأئمة السنة أن الإيمان لا يكفي في قول اللسان بمجرده ولا معرفة القلب مع ذلك بل لا بد فيه من عمل القلب وهو حبه لله ورسوله وانقياده لدينه والتزامه طاعته ومتابعة رسوله وهذا خلاف من زعم أن الإيمان هو مجرد معرفة القلب وإقراره ) (مفتاح دار السعادة لابن القيم (1/97) .) .
ولذلك شق على أبي طالب الدخول في الإسلام لأنه كان يعلم أن الدخول في الإسلام ليس توحيد الله والتصديق بنبيه فقط بل كان يعلم أن الدخول في الإسلام هو مفارقة دين عبد المطلب وكل دين سوى الإسلام والحكم على عبد المطلب بالكفر والشرك وكذا على كل من لم يحقق هذا الدين .
قال الإمام شمس الدين ابن قيم الجوزية (691-751هـ) : ( وهذا هو الذي منع أبا طالب وأمثاله عن الإسلام ، استعظموا آباءهم وأجدادهم أن يشهدوا عليهم بالكفر والضلال ، وأن يختاروا خلاف ما اختار أولئك لأنفسهم ، ورأوا أنهم إن أسلموا سفَّهوا أحلام أولئك وضللوا عقولهم ورموهم بأقبح القبائح ، وهو الكفر والشرك ، ولهذا قال أعداء الله لأبي طالب عند الموت : أترغب عن ملة عبد المطلب ؟ فكان آخر ما كلمهم به : هو على ملة عبد المطلب ! فلم يدعه أعداء الله إلا من هذا الباب لعلمهم بتعظيمه أباه عبد المطلب وأنه إنما حاز الفخر والشرف به ، فكيف يأتي أمراً يلزم منه غاية تنقيصه وذمه !!
ولهذا قال : لولا أن تكون مسبة على بني عبد المطلب لأقررت بها عينك أو كما قال .
وهذا شعره يصرح فيه بأنه قد علم وتحقق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وصدقه كقوله :
وَلَقَدْ عَلِمْتُ بِأَنَّ دِيـنَ مُحَمَّدٍ مِـنْ خَيْرِ أَدْيَانِ الْبَرِيَّةِ دِينَا
لَوْلاَ الْمَلاَمَةَ أَوْ حَـذَارَ مَسَبَّةٍ لَوَجَدْتَنِي سَمْحاً بِذَاكَ مُبِينَا
وفي قصيدته اللامية :
فَـوَاللَّهِ لَوْلاَ أَنْ تَـكُونَ مَسَبَّةٌ تُجَرُّ عَلَى أَشْيَاخِنَا فِي الْمَحَافِلِ
لَكُنَّا اتَّبَعْنَاهُ عَلَى كُـلِّ حَالةٍ مِنَ الدَّهْرِ جَدًّا غَيْرَ قَـوْلِ الْهَازِلِ
لَـقَدْ عَلِمُوا أَنَّ ابْنََنَا لاَ مُكَذَّبٌ لَدَيْنَا وَلاَ يُعْنَي بِقَوْلِ الأَبَـاطِلِ
والمسبة - التي زعم أنها تجر على أشياخه - شهادته عليهم بالكفر والضلال وتسفيه الأحلام وتضليل العقول ، فهذا هو الذي منعه من الإسلام بعد تيقنه ) (مفتاح دار السعادة لابن القيم (1/100-101) .) .
ولذلك أيضاً شق على هرقل الدخول في الإسلام وكان يعلم صدق النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولكن لم يتابعه لأنه إن تابعه سيحتم ذلك عليه التبرؤ من دين النصارى وبالتالي من النصارى أنفسهم ، وبذلك يخسر ملكه فآثر ملكه على دخول الإسلام .
ولهذا قالت الملائكة رضوان الله عليهم : « وَمُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَّقَ بَيْنَ النَّاسِ » (صحيح البخاري ، كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة / باب الاقتداء بسنن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ط. المكنز ( ص 1970 ، حديث رقم : 7281 ) ، الطبعة السلطانية (9/93) .) .
قال القاضي عياض الأندلسي (476-544هـ) : ( وسمي القرآن فرقاناً لتفريقه بين الحق والباطل ، وسمي عمر الفاروق لذلك ، وقوله « مُحَمَّدٌ فَرَّقَ بَيْنَ النَّاسِ » أي يفرق بين المؤمنين باتباعه ، والكفار بمعاداته والصدود عنه ) (مشارق الأنوار على صحاح الآثار (2/153) ، باب (ف ر ق) .) .
وهو الذي فهمه أسعد بن زرارة رضي الله عنه عند بيعة العقبة وهو يومها من أصغرهم فقال : ( رويداً يا أهل يثرب ! فإنا لم نضرب أكباد الإبل إلا ونحن نعلم أنه رسول الله ، وأن إخراجه اليوم مفارقة العرب كافة ، وقتل خياركم ، وأن تعضكم السيوف ، فإما أنتم قوم تصبرون على ذلك وأجركم على الله ، وإما أنتم قوم تخافون من أنفسكم جبينة فبينوا ذلك ) (المسند للإمام أحمد بن حنبل ، مسند جابر بن عبد الله ، ت. حمزة أحمد الزين (11/454) حديث رقم 14393 ، وقال : ( إسناده صحيح ) .) .
ولقد بيَّن هذا الأصل الأصيل الصديق أبو بكر رضي الله عنه في رسالته التي بعثها مع أمرائه لقتال المرتدين حيث قال : ( بسم الله الرحمن الرحيم .
من أبي بكر خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى من بلغه كتابي هذا، من عامة وخاصة ، أقام على إسلامه أو رجع عنه ، سلام على من أتبع الهدى ، ولم يرجع بعد الهدى إلى الضلالة والهوى ، فإني أحمد الله إليكم الذي لا إله إلا هو ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأن محمداً عبده ورسوله ، نقر بما جاء به ، ونُكَفِّر من أَبَى ذلك ، ونجاهده ) (البداية والنهاية لابن كثير (9/447-448) . ) .
ولهذا السبب يأبي الكثير الكثيـر في زماننا هذا الدخول في الإسلام ، فإذا ما ظهر لأحدهم نور التوحيد أقبل عليه بفطرته ، لكنه يشق عليه التبرؤ ممن يخالف هذا الدين من أقربائه وأقرانه .
|
قال الإمام أبو جعفر الطحاوي (239-321هـ) شارحاً لقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم : « أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ ، فَإِذَا شَهِدُوا أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ ، وَاسْتَقْبَلُوا قِبْلَتَنَا ، وَأَكَلُوا ذَبِيحَتَنَا ، وَصَلَّوْا صَلاَتَنَا ، فَقَدْ حَرُمَتْ عَلَيْنَا دِمَاؤُهُمْ وَأَمْوَالُهُمْ إِلاَّ بِحَقِّهَا ، لَهُمْ مَا لِلْمُسْلِمِينَ وَعَلَيْهِمْ مَا عَلَيْهِمْ » (سنن النسائي ، كتاب تحريم الدم ، ط. المكنز ( ص 779 ، حديث رقم 3967 ) ، صحيح سنن النسائي للألباني ( (3/67) ، حديث رقم 3977 ) .) :
( فَدَلَّ مَا ذُكِرَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ عَلَى الْمَعْنَى الَّذِي يَحْرُمُ بِهِ دِمَاءُ الْكُفَّارِ ، وَيَصِيرُونَ بِهِ مُسْلِمِينَ ، لأَنَّ ذَلِكَ هُوَ تَرْكُ مِلَلِ الْكُفْرِ كُلِّهَا ، وَجَحْدُهَا ) (شرح معاني الآثار للطحاوي (3/118) ، باب ما يكون الرجل به مسلماً .) .
إلى أن قال : ( فَلاَ يَكُونُ الْكَافِرُ مُسْلِمًا مَحْكُومًا لَهُ وَعَلَيْهِ ، بِحُكْمِ الإِسْلاَمِ حَتَّى يَشْهَدَ أَنْ لاَ إلَهَ إلاَّ اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ وَيَجْحَدُ كُلَّ دِينٍ سِوَى الإِسْلاَمِ ، وَيَتَخَلَّى مِنْهُ ، كَمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا حَدَّثَنَا حُسَيْنُ بْنُ نَصْرٍ ، قَالَ : ثنا نُعَيْمُ بْنُ حَمَّادٍ ، قَالَ : ثنا مَرْوَانُ بْنُ مُعَاوِيَةَ ، قَالَ : ثنا أَبُو مَالِكٍ سَعْدُ بْنُ طَارِقِ بْنِ أَشْيَمَ عَنْ أَبِيهِ ، قَالَ : سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ « أُمِرْت أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا : لاَ إلَهَ إلاَّ اللَّهُ ، وَيَتْرُكُوا مَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ، فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ ، حَرُمَتْ عَلَيَّ دِمَاؤُهُمْ وَأَمْوَالُهُمْ إلاَّ بِحَقِّهَا ، وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى » (ورد هذا الحديث بألفاظ مختلفة فهو عند النسائي بلفظ : « أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ ، فَإِذَا قَالُوهَا فَقَدْ عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إِلاَّ بِحَقِّهَا ، وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ » ( سنن النسائي ، كتاب تحريم الدم ، ط. المكنز: حديث رقم 3971 ، ص 780 ، صحيح سنن النسائي للألباني (3/69) ) ، وهو عند مسلم بلفظ : « أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ ، وَيُؤْمِنُوا بِي ، وَبِمَا جِئْتُ بِهِ ، فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إِلاَّ بِحَقِّهَا ، وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ » ( صحيح مسلم ، كتاب الإيمان/باب الأَمْرِ بِقِتَالِ النَّاسِ حَتَّى يَقُولُوا لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ ، ط. المكنز (حديث رقم 135 ، ص 37 ) ، ط. السلطانية (1/39) ) ، وقد ورد في رواية أخرى عند الإمام مسلم أيضاً في صحيحه بلفظ : « مَنْ قَالَ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ ، وَكَفَرَ بِمَا يُعْبَدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ ، حَرُمَ مَالُهُ وَدَمُهُ وَحِسَابُهُ عَلَى اللَّهِ » ( صحيح مسلم ، كتاب الإيمان/باب الأَمْرِ بِقِتَالِ النَّاسِ حَتَّى يَقُولُوا لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ ، ط. المكنز (حديث رقم 139 ، ص 38 ) ، ط. السلطانية (1/40) ).) .
حَدَّثَنَا ابْنُ مَرْزُوقٍ ، قَالَ : ثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ بَكْرٍ ، قَالَ : ثنا بَهْزُ بْنُ حَكِيمٍ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ جَدِّهِ ، قَالَ : قُلْت يَا رَسُولَ اللَّهِ ، مَا آيَةُ الإِسْلاَمِ ؟ قَالَ : « أَنْ تَقُولَ أَسْلَمْت وَجْهِيَ لِلَّهِ ، وَتَخَلَّيْت ، وَتُقِيمَ الصَّلاَةَ ، وَتُؤْتِيَ الزَّكَاةَ ، وَتُفَارِقَ الْمُشْرِكِينَ إلَى الْمُسْلِمِينَ » (الحديث أخرجه الإمام النسائي في سننه قال : ( أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَى قَالَ حَدَّثَنَا الْمُعْتَمِرُ قَالَ سَمِعْتُ بَهْزَ بْنَ حَكِيمٍ يُحَدِّثُ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ : قُلْتُ : يَا نَبِيَّ اللَّهِ مَا أَتَيْتُكَ حَتَّى حَلَفْتُ أَكْثَرَ مِنْ عَدَدِهِنَّ - لأَصَابِعِ يَدَيْهِ - أَلاَّ آتِيَكَ وَلاَ آتِيَ دِينَكَ ، وَإِنِّي كُنْتُ امْرَأً لاَ أَعْقِلُ شَيْئًا إِلاَّ مَا عَلَّمَنِي اللَّهُ وَرَسُولُهُ ، وَإِنِّي أَسْأَلُكَ بِوَجْهِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ بِمَا بَعَثَكَ رَبُّكَ إِلَيْنَا قَالَ : « بِالإِسْلاَمِ » ، قَالَ : قُلْتُ : وَمَا آيَاتُ الإِسْلاَمِ ، قَالَ : « أَنْ تَقُولَ أَسْلَمْتُ وَجْهِي إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ، وَتَخَلَّيْتُ ، وَتُقِيمَ الصَّلاَةَ ، وَتُؤْتِيَ الزَّكَاةَ ، كُلُّ مُسْلِمٍ عَلَى مُسْلِمٍ مُحَرَّمٌ ، أَخَوَانِ نَصِيرَانِ ، لاَ يَقْبَلُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ مُشْرِكٍ بَعْدَمَا أَسْلَمَ عَمَلاً أَوْ يُفَارِقَ الْمُشْرِكِينَ إِلَى الْمُسْلِمِينَ » ) . ( سنن النسائي ، كتاب الزكاة / باب مَنْ سَأَلَ بِوَجْهِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ، ط. المكنز (حديث رقم : 2568 ، ص 496) ، صحيح سنن النسائي للألباني : ص (2/217-218) ) .) ،
فَلَمَّا كَانَ جَوَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمُعَاوِيَةَ بْنِ حَيْدَةَ ، لَمَّا سُئِلَ عَنْ آيَةِ الإِسْلاَمِ : « أَنْ تَقُولَ أَسْلَمْت وَجْهِيَ لِلَّهِ ، وَتَخَلَّيْت ، وَتُقِيمَ الصَّلاَةَ ، وَتُؤْتِيَ الزَّكَاةَ ، وَتُفَارِقَ الْمُشْرِكِينَ إلَى الْمُسْلِمِينَ » ، وَكَانَ التَّخَلِّي هُوَ تَرْكُ كُلِّ الأَدْيَانِ إلَى اللَّهِ ، ثَبَتَ بِذَلِكَ أَنَّ كُلَّ مَنْ لَمْ يَتَخَلَّى مِمَّا سِوَى الإِسْلاَمِ ، لَمْ يُعْلَمْ بِذَلِكَ دُخُولَهُ فِي الإِسْلاَمِ ) (شرح معاني الآثار للطحاوي (3/118-119) ، باب ما يكون الرجل به مسلماً .) .
وقال في موضع آخر : ( الإِسْلاَمَ لاَ يَكُونُ إلاَّ بِالْمَعَانِي الَّتِي تَدُلُّ عَلَى الدُّخُولِ فِي الإِسْلاَمِ ، وَتَرْكِ سَائِرِ الْمِلَلِ ) (شرح معاني الآثار للطحاوي (3/118) ، باب ما يكون الرجل به مسلماً .) .
ولا يستطيع الإنسان أن يتخلى عما سوى الإسلام إلا بمعرفة الإسلام ، وهو شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله شهادة علم وصدق ومحبة وإخلاص ويقين وانقياد ومتابعة .
فالإنسان لا يعد مسلماً إلا إذا دخل هذا الدين بهذا الاعتبار ، بأن يفارق الشرك وأهله مفارقة تبرؤ من دينهم ومعبوداتهم الباطلة .
ولا يعد من أهل الإسلام إذا اعتبر ما سواه من الأديان صحيحاً أو اعتبر من لم يحقق هذا الدين أو من خالفه من زمرة المسلمين . |
فهذا إمام الحنفاء إبراهيم عليه السلام الذي أمرنا الله عز وجل بالتأسي به وبمن معه من المسلمين ، يقول الله عز وجل عنه في كتابه الكريم :
[ قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآَءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ ] (الممتحنة: 4)
فانظر كيف قدموا البراءة من أقوامهم على البراءة من معبوداتهم دون الله عز وجل ، حيث أن الشرك من صناعة المشرك ، ولا وجود للشرك دون صانعه ، وانظر كيف جعلوا هذا الدين هو أساس الترابط والتواد والموالاة . فهذا هو الإسلام الحق وما سواه باطل .
|
ولقد أحسن العلامة ابن القيم (691-751هـ) رحمة الله عليه حين قال (الكافية الشافية لابن القيم ص 186 ، رقم البيت 3499-3500 .) :
أَتُحِبُّ أَعْدَاءَ الْحَبِيبِ وَتَدَّعِي حُبًّا لَهُ مَا ذَاكَ فِـي إِمْكَانِ
وَكَـذَا تُعَادِي جَاهِداً أَحْبَابَهُ أَيْنَ الْمَحَبَّةُ يَا أَخَ الشَّيْطَانِ
وقد يخدع إبليس بعض الناس فيوهمهم بأن التبرأ من كل دين يخالف دين الإسلام كاف حتى لو لم يتبرأوا من معتقدي هذا الدين ، فمثلا يزعم أتباع إبليس أن التبرؤ من كل ما يخالف الإسلام واجب مثل التبرؤ من الشيوعية والنصرانية ، ولكن لو لم يتبرأ المسلم (!) من الشيوعي لا يضره ، وهذه سفسطة كلامية فإن من يحكم على دين بالكفر لا مفر له من أن يحكم على أتباعه بالكفر أيضاً ، وإلا كان متناقضاً وساعياً للجمع بين الضدين في آن واحد .
<TABLE id=myexample style="BORDER-RIGHT: red 5px solid; BORDER-TOP: red 5px solid; BORDER-LEFT: red 5px solid; BORDER-BOTTOM: red 5px solid" border=0>
<TR> <td>فالموحد لا يتبرأ من الشرك وحده بل يتبرأ من الشرك وأهله كما فعل إمام الحنفاء إبراهيم عليه السلام ومن معه من الموحدين الحنفاء ، وإن أعظم الفساد اتخاذ المؤمنين الكافرين أولياء ، وأعظم الولاء أن يعدَّ غير المسلمين من أهل الإسلام ، فإن من لم يكفر المشركين أو شك في كفرهم أو صحح مذهبهم الباط</TD></TR></TABLE>ل كفر إجماعاً .
|
قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب (1115-1206هـ) : ( وأنت يا من منَّ الله عليه بالإسلام وعرف أن ما من اله إلا الله , لا تظن أنك إذا قلت : هذا هو الحق وأنا تارك ما سواه لكن لا أتعرض للمشركين ولا أقول فيهم شيئاً , لا تظن أن ذلك يحصل لك به الدخول في الإسلام ، بل لابد من بغضهم وبغض من يحبهم ومسبتهم ((لا يقصد من المسبة هنا بمعنى الشتم المعروف عرفاً ، وتوضيح ذلك من قول الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله في موضع آخر حيث قال : (
إنه صلى الله عليه وسلم لما قام ينذرهم عن الشرك ، ويأمرهم بضده وهو التوحيد ، لم يكرهوا ذلك واستحسنوه ، وحدثوا أنفسهم بالدخول فيه إلى أن صرح بسب دينهم ، وتجهيل علمائهم ، فحينئذ شمروا له ولأصحابه عن ساق العداوة ، وقالوا سفَّه أحلامنا ، وعاب ديننا ، وشتم آلهتنا ، ومعلوم أنه صلى الله عليه وسلم لم يشتم عيسى وأمه ولا الملائكة ولا الصالحين ، لكن لما ذكر أنهم لا يدعون ولا ينفعون ولا يضرون جعلوا ذلك شتماً ) (مجموعة رسائل في التوحيد والإيمان ، ص 355-356) . )) ومعاداتهم , كما قال أبوك إبراهيم والذين معه : [ إِنَّا بُرَآَءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ ] (الممتحنة: 4) ، وقال تعالى : [ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى ] (البقرة: 256) ، وقال تعالى : [ وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ ] (النحل: 36) . و لو قال رجل : أنا أتبع النبي صلى الله عليه و سلم وهو على الحق , لكن لا أتعرض للات والعزة ولا أتعرض لأبي جهل وأمثاله , ما عليَّ منهم ، لم يصح إسلامه ) (مجموعة الفتاوى والرسائل والأجوبة ، ص 126 .) .
قال الشيخ عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ (1196-1285هـ) : ( فلا بد من تكفيرهم أيضاً ، وهذا هو مقتضى: لا إله إلا الله ، كلمة الإخلاص ، فلا يتم معناها، إلا بتكفير من جعل لله شريكا في عبادته ، كما في الحديث الصحيح : « مَنْ قَالَ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ ، وَكَفَرَ بِمَا يُعْبَدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ ، حَرُمَ مَالُهُ وَدَمُهُ وَحِسَابُهُ عَلَى اللَّهِ » (صحيح مسلم ، كتاب الإيمان / باب أول الإيمان قول لا إله إلا الله ، ط. المكنز (ص 38 ، حديث رقم : 139) ، الطبعة السلطانية (1/40) .) ، فقوله : « وَكَفَرَ بِمَا يُعْبَدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ » تأكيد للنفي ، فلا يكون معصوم الدم والمال إلا بذلك ، فلو شك أو تردد لم يعصم دمه وماله ) (الدرر السنية في الأجوبة النجدية (2/206) .) .
|
قال الشيخ الإمام حمد بن علي بن عتيق (1227-1301هـ) في تفسير قوله تعالى : [ لاَ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ ] (آل عمران: 28) : ( فنهى سبحانه المؤمنين عن موالاة الكافرين ثم قال : [ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ] أي : ومن يوالِ الكافرين ، فليس من الله في شيء ، أي : فقد برئ من الله ، وبرئ الله منه ، وهذا تهديد شديد ووعيد أكيد ، حفظاً للإسلام والتوحيد ) (سبيل النجاة والفكاك من مولاة المرتدين وأهل الإشراك ، ص 259 .) .
وقال الحافظ ابن كثير (700-774هـ) : ( فإن من الفساد في الأرض إتخاذ المؤمنين الكافرين أولياء كما قال تعالى : [ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ ] (الأنفال: 73) ، فقطع الله الموالاة بين المؤمنين والكافرين كما قال تعالى : [ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُبِينًا ] (النساء: 144) ، ثم قال : [ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا ] (النساء: 145) ) (تفسير ابن كثير (1/181) .) .
قال الإمام شمس الدين ابن قيم الجوزية (691-751هـ) في معرض وصفه لسورة الكافرون : ( وأما المسألة السادسة : وهي اشتمال هذه السورة على النفي المحض فهذا هو خاصة هذه السورة العظيمة فإنها سورة براءة من الشرك كما جاء في وصفها أنها
براءة من الشرك ، فمقصودها الأعظم هو البراءة المطلوبة بين الموحدين والمشركين
ولهذا أتى بالنفي في الجانبين تحقيقاً للبراءة المطلوبة ، هذا مع أنها متضمنة للإثبات صريحاً فقوله : [ لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ ] (الكافرون: 2) ؛ براءة محضة ، [ وَلاَ أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ ] (الكافرون: 3) ؛ إثبات أن له معبوداً يعبده وأنتم بريئون من عبادته ، فتضمنت النفي والإثبات وطابقت قول إمام الحنفاء : [ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ * إِلاَّ الَّذِي فَطَرَنِي ] (الزخرف: 26-27) ، وطابقت قول الفتية الموحدين : [ وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ ] (الكهف:16) ؛ فانتظمت حقيقة لا إله إلا الله ، ولهذا كان النبي يقرنها بسورة قل هو الله أحد في سنة الفجر وسنة المغرب ، فإن هاتين السورتين سورتا الإخلاص ، وقد اشتملتا على نوعي التوحيد الذي لا نجاة للعبد ولا فلاح إلا بهما ، وهما :
توحيد العلم والاعتقاد المتضمن تنزيه الله عما لا يليق به من الشرك والكفر والولد والوالد وأنه إله أحد صمد لم يلد فيكون له فرع ولم يولد فيكون له أصل ، ولم يكن له كفواً أحد فيكون له نظير ، ومع هذا فهو الصمد الذي اجتمعت له صفات الكمال كلها ، فتضمنت السورة إثبات ما يليق بجلاله من صفات الكمال ، ونفي ما لا يليق به من الشريك أصلاً وفرعاً ونظيراً ، فهذا توحيد العلم والاعتقاد .
والثاني : توحيد القصد والإرادة : وهو أن لا يعبد إلا إياه ، فلا يشرك به في عبادته سواه ، بل يكون وحده هو المعبود ، وسورة قل يا أيها الكافرون مشتملة على هذا التوحيد فانتظمت السورتان نوعي التوحيد وأخلصتا له ) (بدائع الفوائد (1/242-244) .)
... إلى أن قال : ( وأما المسألة التاسعة وهي : ما الفائدة في قوله : [ لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ ] (الكافرون: 6) ، وهل أفاد هذا معنى زائداً على ما تقدم ؟ فيقال : في ذلك من الحكمة والله أعلم أن النفي الأول أفاد البراءة وأنه لا يتصور منه ، ولا ينبغي له أن يعبد معبوديهم ، وهم أيضاً لا يكونون عابدين لمعبوده ، وأفاد آخر السورة إثبات ما تضمنه النفي من جهتهم من الشرك والكفر الذي هو حظهم وقسمهم ونصيبهم فجرى ذلك مجرى من اقتسم هو وغيره أرضاً فقال له لا تدخل في حدي ولا أدخل في حدك ، لك أرضك ولي أرضي ، فتضمنت الآية أن هذه البراءة اقتضت أنا اقتسمنا خطتنا بيننا ، فأصابنا التوحيد والإيمان فهو نصيبنا وقسمنا الذي نختص به لا تشركونا فيه ، وأصابكم الشرك بالله والكفر به فهو نصيبكم وقسمكم الذي تختصمون به لا نشرككم به ، فتبارك من أحيا قلوب من شاء من عباده بفهم كلامه ، وهذه المعاني ونحوها إذا تجلت للقلوب رافلة في حللها فإنها تسبي القلوب وتأخذ بمجامعها ومن لم يصادف من قلبه حياة فهي خود تزف إلى ضرير مقعد ، فالحمد لله على مواهبه التي لا تنتهي ونسأله إتمام نعمته ) (بدائع الفوائد (1/245-246) .) .
... إلى أن قال : ( وأما المسألة الحادية عشرة : وهي أن هذا الإخبار بأن لهم دينهم وله دينه هل هو إقرار فيكون منسوخا أو مخصوصا أو لا نسخ في الآية ولا تخصيص ؟
فهذه مسألة شريفة من أهم المسائل المذكورة وقد غلط في السورة خلائق وظنوا أنها منسوخة بآية السيف لاعتقادهم أن هذه الآية اقتضت التقرير لهم على دينهم ، وظن آخرون أنها مخصوصة بمن يقرون على دينهم وهم أهل الكتاب ، وكلا القولين غلط محض فلا نسخ في السورة ولا تخصيص بل هي محكمة عمومها نص محفوظ ، وهي من السور التي يستحيل دخول النسخ في مضمونها ، فإن أحكام التوحيد التي اتفقت عليه دعوة الرسل يستحيل دخول النسخ فيه . وهذه السورة أخلصت التوحيد ، ولهذا تسمى سورة الإخلاص كما تقدم ، ومنشأ الغلط ظنهم أن الآية اقتضت إقرارهم على دينهم ، ثم رأوا أن هذا الإقرار زال بالسيف فقالوا : منسوخ .
وقالت طائفة : زال عن بعض الكفار وهم من لا كتاب لهم ، فقالوا هذا مخصوص ، ومعاذ الله أن تكون الآية اقتضت تقريراً لهم أو إقراراً على دينهم أبداً ، بل لم يزل رسول الله في أول الأمر وأشده عليه وعلى أصحابه أشد على الإنكار عليهم وعيب دينهم وتقبيحه والنهي عنه والتهديد والوعيد كل وقت وفي كل ناد .
وقد سألوه أن يكف عن ذكر آلهتهم وعيب دينهم ويتركونه وشأنه فأبى إلا مضياً على الإنكار عليهم وعيب دينهم فكيف يقال إن الآية اقتضت تقريره لهم معاذ الله من هذا الزعم الباطل ،
وإنما الآية اقتضت البراءة المحضة كما تقدم ، وأن ما هم عليه من الدين لا نوافقكم عليه أبداً ، فإنه دين باطل فهو مختص بكم ، لا نشرككم فيه ولا أنتم تشركوننا في ديننا الحق ، فهذا غاية البراءة ، والتنصل من موافقتهم في دينهم ، |
فأين الإقرار حتى يدعي النسخ أو التخصيص أفترى إذا جوهدوا بالسيف كما جوهدوا بالحجة لا يصح أن يقال : [ لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ ] (الكافرون: 6) ؟! بل هذه آية قائمة محكمة ثابتة بين المؤمنين والكافرين إلى أن يطهر الله منهم عباده وبلاده ) (بدائع الفوائد (1/247-248) .) .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية (661-728هـ) : ( وهذا مما يحقق أن الإيمان والتوحيد لابد فيهما من عمل القلب كحب القلب ، فلا بد من إخلاص الدين لله ، والدين لا يكون دينا إلا بعملٍ ، فإن الدين يتضمن الطاعة والعبادة ، وقد أنزل الله عز و جل سورتي الإخلاص قل يا أيها الكافرون وقل هو الله أحد ، إحداهما في توحيد القول والعلم ، والثانية في توحيد العمل والإرادة فقال في الأول : [ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ ] (الإخلاص) ، فأمره أن يقول هذا التوحيد ، وقال في الثاني : [ قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ * لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ * وَلاَ أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * وَلاَ أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ * وَلاَ أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ ] (الكافرون) ، فأمره أن يقول ما يوجب البراءة من عبادة غير الله وإخلاص العبادة لله ) (مجموع الفتاوى لابن تيمية (10/273-274) .) .
قلت : وما يوجب البراءة من عبادة غير الله وإخلاص العبادة لله عز وجل هو تكفير الكافر وعدم تصحيح مذهبه ودينه والتبرؤ منه ومن دينه وبغضه وعدم إعانته على المسلمين .
|
وقال رحمه الله في موضع آخر : ( فإن أهل الكتاب الذين لم يؤمنوا بما أنزل إليه من ربه كافرون ، قد شهد عليهم بالكفر ، وأمرهم بجهادهم ، وكفَّر من لم يجعلهم كافرين ويوجب جهادهم ) (الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح لابن تيمية (3/63) .) .
إذا علمت هذا علمت أن الدخول في الإسلام لا يتم إلى بسلب الألوهية والربوبية عن كل ما سوى الله عز وجل ، وسلب الإتباع عن كل بشر سوى رسول الله محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وسلب الولاء عن كل من لم يحقق الشهادتين أو ناقضهما أو خالف فيهما .
فمن والى من خالف هذا الدين فلا يعتبر مؤمناً بالله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم ، وهذا حكم الله عز وجل المحكم الواضح في كتابه الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، حيث ذكر عن كثير من كفار بني إسرائيل أنهم كانوا يتولون الذين كفروا وأنهم لو كانوا يؤمنون بالله والنبي وما أنزل إليه ما اتخذوا الكافرين أولياء ، فقال عز من قائل : [ لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ * تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ * وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ ] (المائدة: 78-81)
فتحقيق الولاء لأهل الإسلام ، وتحقيق البراءة من أهل الكفر هو من أصل التوحيد لا يتم إلا به ، ومن ادعى أنه يؤمن بالله عز وجل وبنبيه صلى الله عليه وآله وسلم وما أنزل إليه مع موالاته للكافرين فهو كاذب في دعواه الإيمان ، يكذبه رب العزة تبارك وتعالى بقوله : [ وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ ] (المائدة: 81) ،
لذا فعليك يا عبد الله أن تكون بريئاً من الشرك والمشركين ، موالياً للتوحيد والموحدين ، حتى تكون من أهل الحق واليقين ، وتفوز بجنات النعيم ، جعلنا الله وإياك من أهله بفضله ومنِّه وكرمه ... آمين يا رب العالمين .
واعلم أن الشرك والكفر سببه الغالب إما الجهل (1) ، وإما التأويل الفاسد ، وإما العناد ، وإما الإعراض عن دين الله عز وجل ، |
فقصر علماء إبليس الشرك والكفر على العناد ، وجعلوا الجهل والتأويل عذراً يسبغون به على المشركين صفة الإسلام ويوالونهم لأجله إن كانوا ممن يتلفظون بالشهادتين فقصروا الإسلام على مجرد ألفاظ خاوية من المعاني ، ولم يدروا أن الشاهد كي يكون شاهداً يجب عليه أن يشهد بالشيء على علم وعلى ما هو عليه ، فهذه هي حقيقة الشهادة .
قال تعالى : [ وَلاَ يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلاَّ مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ] (الزخرف: 86) .
-----------------------------------------------------------------------------------------------
(1) قال الإمام شمس الدين ابن قيم الجوزية (691-751هـ) : ( والقرآن مملوء بسلب العلم والمعرفة عن الكفار ، فتارة يصفهم بأنهم لا يعلمون ، وتارة بأنهم لا يعقلون ، وتارة بأنهم لا يشعرون ، وتارة بأنهم لا يفقهون ، وتارة بأنهم لا يسمعون ، والمراد بالسمع المنفي سمع الفهم ، وهو سمع القلب لا إدراك الصوت ، وتارة بأنهم لا يبصرون ، فدل ذلك كله على أن الكفر مستلزم للجهل مناف للعلم لا يجامعه ، ولهذا يصف سبحانه الكفار بأنهم جاهلون كقوله تعالى : [ وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاَمًا ] (الفرقان: 63) ، وقوله تعالى : [ وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ لاَ نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ ] (القصص: 55) ، وقوله تعالى : [ خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ ] (الأعراف: 199) ) . (مفتاح دار السعادة لابن القيم ج1 ، ص 92 ) .
-----------------------------------------------------------------------------------------------
قال شيخ الإسلام ابن تيمية (661-728هـ) : ( فان الخطأ في اسم الإيمان ليس كالخطأ في اسم محدث ، ولا كالخطأ في غيره في الأسماء ، إذا كانت أحكام الدنيا والآخرة متعلقة باسم الأيمان والإسلام و الكفر والنفاق ) (مجموع الفتاوى لابن تيمية (7/395) .) .
فمن لم يفرق بين المسلم والمشرك وسمى المشرك مسلماً فهو من زمرة المشركين المسوغين للشرك ، الموالين للمشركين ، الناقضين للتوحيد ، المكذبين لنصوص الوحيين ، وكل من لم يكفر المشركين أو شك في كفرهم أو صحح مذهبهم الباطل كفر إجماعاً وكُذِّب في دعواه الإيمان .
قال الله عز وجل : [ وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ ] (المائدة: 81) ، وقال سبحانه وتعالى : [ أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ ] (القلم: 35-36)
قال القاضي عياض الأندلسي (476-544هـ) : ( ولهذا نكفِّر من لم يكفِّر من دان بغير ملة المسلمين من الملل أو وقف فيهم أو شكَّ أو صحح مذهبهم ، وإن أظهر مع ذلك الإسلام واعتقده واعتقد إبطال كل مذهب سواه فهو كافر بإظهاره ما أظهر من خلاف ذلك ) (الشفا للقاضي عياض (2/286) .) .
لذا فإن أصل الخلاف بيننا وبين من يسمون بأصحاب العذر بالجهل في التوحيد ، وهم المنافحين عن إيمان الجاهلين برب العالمين ، والمدافعين عن إيمان المشركين بالله عز وجل في عبادته بحجة أنهم جاهلين ، هو في تحديد معالم هذا الدين ومعرفة حقيقته وأصله وأساسه الذي لا يتم ولا يصح إلا به ، فهم يجعلون الإسلام تارة هو التلفظ بالشهادتين ، وتارة يظنون أنه يكفي للدخول في الإسلام معرفة أن الله سبحانه وتعالى هو الخالق الرازق ولو كان يعبد الواحد منهم غير الله عز وجل ، وبذلك يصححون دين المشركين ودين الجاهلين برب العالمين .
وهؤلاء أصحاب العذر بالجهل في التوحيد ليسوا على دين الإسلام لأن من شرط الدخول في الإسلام التبرؤ من كل الملل سوى الإسلام وجحدها والتبرؤ من أهلها كما أسلفنا .
لذا قلنا أن الشاك في الله والموالي له في الحكم سيان ، فالأول لم يعرف الله ولم يؤمن به بعد ، والثاني صحح دين من لم يعرف الله عز وجل ومن لم يؤمن به أي صحح الكفر ووالى أهله .
فإن ادعى مغرض أن من لم يكفر المشركين ليس موال لهم بالضرورة ، فنرد عليه بحول الله تعالى ونقول :
إن من لم يكفِّر المشركين ، ولو لم يوالهم الولاء العملي ، فهو قد والاهم بقلبه وقوله .
أما ولاؤه القلبي : فهو لأنه اعتبرهم من المؤمنين الموحدين ، فأحبهم حب المؤمنين الموحدين ، وهذا من أعظم الولاء ، وأصل الولاء الذي ينبني عليه صور الولاء الأخرى من الولاء القولي والعملي .
وأما الولاء القولي : فهو لأنه وصف أهل الشرك بأنهم أهل إيمان وتوحيد .
أقول بحول الله تعالى : فإذا عرف الواحد معنى الشهادتين وعرف حقيقة هذا الدين وجب عليه التبرؤ من كل ما سوى هذا الدين وأتباعهم ، فمن صحح إيمان الجاهلين برب العالمين ، أو الشاكين في كمال بعض صفات الله عز وجل ، أو صحح إيمان المشركين برب العالمين ولو بحجة أنهم جاهلين ، فهو قد صحح الشرك والكفر لأنه اعتبر أهل الشرك والكفر من أهل الإسلام ، ومن اعتبر أهل الشرك والكفر من أهل الإسلام فقد والاهم بقلبه على أدنى تقدير ، وهذا هو أصل الولاء الذي ينبثق منه صور الولاء الأخرى من الولاء القولي والعملي ، وبذلك يعد أنه لم يدخل في الإسلام بعد لأنه لم يتبرأ ولم يجحد كل ملل الشرك والكفر وجميع أهلها .
-------------------------------------------------------
منقول من رسالة توفيق اللطيف المنان في بيان أن الشاك في الله ليس من أهل الإيمان وأن الموالي له في الحكم سيان للشيخ عبد القادر بن إسماعيل الإبراهيمي (1 / 41-52) وهي المقدمة الرابعة للرسالة ..
</B></I>