تقول هذه الفتاة :
خطرت على بالي فكرة غريبة، وهي تثبيت كاميرات فيديو في بيتي. إذ أردت أن أسجل يوما عاديا في حياتي بشكل تلقائي. فلماذا لا أرى نفسي بعين الآخرين؟
قمت فعلاً بتثبيت الكاميرات في أكثر من مكانٍ بالشقة، حتى تسجل كل حركة وكل سكنة بوضوح. ولكن شعرت برهبة شديدة من هذه التجربة، ولم أدرِ منبع هذا الخوف. هل هو خوف من الكاميرات، أم من نفسي؟
مرت الدقائق بصعوبة شديدة، وسرحت بتفكيري متخيلة أحداث اليوم. وكيف سيسجلها الكمبيوتر باللحظة. لم أكن أنا الوحيدة المتشوقة لرؤية نتيجة هذه التجربة، بل إن مجموعة كبيرة من صديقاتي يتشوقن لرؤية هذه التجربة، وكأنهن يتشوقن لرؤية فيلم سينمائي من نوعٍ خاص، لم يَكتب له السيناريو سواي، ولم يخرجه غيري. ولكن ترى مَن سيشاركني في بطولة هذا الفيلم؟
الكاميرات تراقب تصرفاتي
ثم قلت في نفسي: ما الجديد في الأمر؟ إنه يوم مثل أي يوم، يجب أن أتصرف بتلقائية، وأحاول أن أتناسى الكاميرات. وبدأت أشعر أن هذه الكاميرات تشعر بما أفكر فيه، وكأنها تنظر إليَّ وتتحداني، بل وتبتسم في سخرية؛ قائلة: سأتعرف على كل ما يخصك، سأقتحم حياتك، سأكون شاهدة على أقوالك وأفعالك.
كدتُ أُجنّ من هذه الفكرة. وهدأت نفسي: هذه الكاميرا ما هي إلا جماد لا يحس ولا يشعر. فلماذا كل هذه الرهبة والخوف منها؟!. وفجأة أفقت على صوت رنين التليفون....
- السلام عليكم.
- وعليكم السلام.
- كيف حالك؟
- الحمد لله.
استمر الحديث وأنا أرقب الكاميرات، وكأنها تخرج لي لسانها لتغيظني؛ وتقول لي: سأسمع كل حديثك مع صديقتك. تلعثمت ولم أستطع إتمام المكالمة، وقلت لصديقتي التي كنت أحادثها بالساعات يوميًّا:
- أرجو أن تتصلي في وقت لاحق.. فأنا مشغولة جدًّا الآن، ولا أستطيع محادثتك.
وضعت سماعة الهاتف، وأنا أسأل نفسي: لماذا تصرفت هكذا مع صديقتي. هل هو الخوف من الكاميرات التي ستسجل كل ما أقوم به من أفعال؟ أم هو خوف من نفسي؟ وكأنني أخشى أن أضع نفسي في مواجهة مع نفسي!!
أتذكر كم كنتُ أتحدث مع صديقتي بالأمس على الهاتف دون خوف، عن أخبار الجيران والأقارب والصديقات، و... و... و... والكلام لا ينتهي. لم أكن أخشى الكلمة بالأمس. أتراني أخاف أن أنطق بلفظ يسيء إلى إحدى صديقاتي اللائي سيشاهدن هذا الفيلم. أم أنني أريد أن أظهر بصورة مثالية، فأتجمل وأواري عيوب نفسي؟
وهكذا تمر الدقائق تلو الدقائق، والساعات تلو الساعات. وكلما فكرت في فعل شيء لا أحب أن يراه الناس تراجعت بسرعة، فالكاميرات تسجل وتصور. أحسست بخوف يملؤني، لم أحب أن أخبر أحدا بمخاوفي. أحتاج إلى أحد ألجأ إليه. فقد بدأ خوفي يزداد أكثر وأكثر، وشعرت بحاجة إلى قوة تحميني من خوفي.. ولكن بمن ألوذ؟!
ذهبت لا إراديًّا لأتوضأ وأصلي، وأبكي بين يدي الله. وكأنني أصلي لأول مرة في حياتي. دعوت الله أن يهديني ويرشدني إلى طريق الصواب. ولأول مرة في حياتي، ملأت الطمأنينة قلبي ونفسي. ما أكرمك يا الله! لقد كنتُ في غفلة، ما أحلى الفرار إليك يا الله. أنت ملاذي وملجئي. لم أعد أخشى أو أخاف سواك.
نعم لأول مرة في حياتي أستشعر معية الله. وتذكرت قصة الصبي الذي أوصاه خاله سَهْل التُّسْتَرِيّ التابعي الزاهد، أن يردد كل يوم: "الله شاهدي.. الله ناظري.. الله مطَّلع عليَّ". فظلّ يردد هذا القول حتى أصبح ملازما له. وكلما أَقْدَم على فعل المعصية، تذكر أن الله يراه. فيبتعد عنها، خوفا من غضبه.
شكرا عزيزتي..
ونعود ثانية إلى موضوع الكاميرات؛ فقد مرَّت حتى الآن ستّ ساعات متواصلة من التصوير، وها هي مثبتة في أماكنها لم تتغير. ولكن هناك أشياء أخرى قد تبدلت.
نعم.. أولها: أنني لم أعد أخشى من تلك الكاميرات. بل أحببتُها جدًّا؛ لأنها أحدثتْ تحولاً كبيرًا في حياتي، ونظرت إليها في امتنان، وكأنني أقول لها: شكرًا.
والأغرب من هذا أنني بعد فترة لم أعد أشعر بها، أو أفكر فيها. ولم يعد يهمني ما تسجله الكاميرات. فلم تعد تلك الكاميرات هي الرقيب عليّ، إنما ما هو أعظم منها، وهو شعوري بمعيّة الله الذي لا يغفل ولا ينام.
فلو فرضنا أن الكاميرات سجلت كل تصرفاتي، فما الذي يجعلني أخاف؟! أأخاف من الناس الذين هم مثلي أمام الله؟ أأخشى الناس ولا أخشى الله؟! فما الفائدة إذا كنتُ في أعين الناس عظيمةَ الشأن؛ ولا أشعر براحة الضمير. حينئذ تذكرت مقولة وهب بن الورد: "لا تجعل الله أهون الناظرين إليك".
فخشيتِي للناس أعطتني وقفة، والله أحق أن أخشاه. فإذا كنتُ أخاف من مخلوق مثلي قد يراني، وقد لا يراني، فالأولى أن أخشى من الخالق الذي يرى جميع تصرفاتي، ويعلم أسراري وخواطري {يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى} [طه: 7].
قمت وأغلقت تلك الكاميرات، فلم أعد في حاجة إليها، ولن أحتاج أن أسجل يومًا من حياتي. فعندي ملكان يسجلان عليَّ كل أعمالي. وكل أقوالي: {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} [الزلزلة: 7- 8]. وهناك أيضا رقيب وعتيد {مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق: 18].
وهناك سجلّ أعمالي من حسنات وسيئات، سأقرؤه يوم القيامة. وهناك ما هو أعظم من كل ذلك.. إنه الله.. نَعَم الله.. فعندما سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الإحسان، قال: "أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك". ولذلك أُحب أن يراني دائمًا على الطاعة.
صوت الضمير يعلو..
تخيل أنك مراقب
والآن أسمع صوتًا يناديني من داخلي يقول: ما أحلى معية الله. ولكن ما هذا الصوت؟ لقد سمعت هذا الصوت كثيرًا؛ وتناسيته أحيانا؛ يبدو أنه صوت ضميري.
ويمر اليوم وتليه أيام وشهور. ولكني لا أنسى ذلك الدرس الذي غيَّر حياتي كلها، حتى قرأتُ منذ أيامٍ عن برنامج (Gogle Earth)، وقمت بتثبيت نسخة منه على الكمبيوتر، وعرفت أنه يصور أي مكان في الكرة الأرضية بوضوح، حتى يمكن أن يصور مجموعة من الأشخاص داخل شرفة المنزل مثلاً، وأحببت أن أرى بيتنا من خلال البرنامج، وفعلاً دخلت الشارع والبيت من خلال البرنامج.
خطرتْ على بالي فكرة أكثر غرابة: ماذا سيحدث لو ظلَّ كل منا تحت رقابة القمر الصناعي يومًا كاملاً؛ كيف سيتصرف؟ الناس جميعًا ستراك الآن.. ماذا ستفعل؟ّ!
يا إلهي.. لقد كانت فكرة الكاميرات أبسط بكثير، فما بالك بالقمر الصناعي، والعالم كله يراك؟! هل تعصي الله؟ هل تحب أن يراك أحد على معصية؟! بالطبع ستكون الإجابة: لا. فماذا لو تخيلت أنك تحت رقابة (Gogle Earth) ليوم واحد، وتصرفت كما لو أنّ العالم كله سيرى أعمالك.. ماذا ستفعل؟
والآن سأطرح عليك السؤال: هل تجد في الدنيا ما هو أعظم من رضا الله؟ ستكون الإجابة حتمًا ودون تردد: لا. إذن، لا تجعل الله أهون الناظرين إليك.
منقوووووووووووووووووووووووووووووووووووووووووووووووووووول