إذا كان الشعر بطبعه محبوب فإنه إذا كان للإمام المقتدى بقوله وفعله أحب إلى النفوس وأحب ونذكر هنا بعضا من شعر أولئك العلماء الذين جمعوا مع العلم والفقه في الدين والزهد في الدنيا الشعر الجميل
فمن هؤلاء العلماء الشعراء عبد الله بن المبارك وهو الذي يقول :
قد أرحنا واسترحنا ***من غدو ورواح
واتصال بأمير ***ووزير ذي سماح
بعفاف وكفاف***وقنوع وصلاح
وجعلنا اليأس مفتـ***ـاحا لأبواب الصلاح
وقال :
أيها القارئ الذي لبس الـ***ـصوف وأضحى يعد في الزهاد
الزم الثغر والتعبد فيه ***ليس بغداد موضع الزهاد
إن بغداد للملوك محل ***ومناخ القارئ الصياد
وقال :
ما ذاق طعم الغنى من لا قنوع له ***ولن ترى قانعا ما عاش مفتقرا
والعرف من يأته تحمد عواقبه***ما ضاع عرف وإن أوليته حجرا
وقال أيضا :
ألا رب ذي طمرين في منزل غدا***زرابيه مبثوثة ونمارقه
قد اطردت أنواره حول قصره ***وأشرق والتفت عليه حدائقه
وقال :
أعداء غيب إخوة التلاقي***يا سوئتا من هذه الأخلاق
كأنما اشتقت من النفاق
ىله أيضا
دنيا تداولها العباد ذميمة ***شيبت بأكره من نقيع الحنظل
وبنات دهر لا تزال ملمة***فيها وقائع مثل نقع الحنظل
وله
مستوفدين على رحل كأنهم***ركب يريدون أن يمضوا وينتقلوا
عفت جوارحهم عن كل فاحشة***فالصدق مذهبهم والخوف والوجل
وقال في مبتدع يقال له جهم
عجبت لشيطان أتى الناس داعيا***إلى النار واشتق اسمه من جهنم
وقال في الحافظ مسعر بن كدام
من كان ملتمسا جيليسا صالحا***فليأت حلقة مسعر بن كدام
فيها السكينةوالوقار وأهلها***أهل العفاف وعلية الأقوام
وقال في مالك بن أنس الإمام وهو شيخه
صموت إذا ما الصمت زين أهله***وفتاق أبكار الكلام المختم
وعى ما وعى القرآن من كل حكمة***وسيطت له الآداب باللحم والدم
وقال فيه أيضا
يأبى الالجواب فما يراجع هيبة***والسائلون نواكس الأذقان
هدي الوقار وعز سلطان التقى***فهو المهيب وليس ذا سلطان
وله يرد على من سب الصحابة رضوان الله عنهم
فلا أسب أبا بكر ولا عمرا ***ولا أسب معاذ الله عثمانا
ولا ابن عم رسول الله أشتمه***حتى ألبس في التراب أكفانا
ولا الزبير حواري النبي ولا ***أهدي لطلحة شتما عز أو هانا
ولا أقول لأم المؤمنين كما ***قال الغواة لها زورا وبهتانا
ومن هؤلاء الإمام الشافعي وشعره مشهور ومتداول بين الناس لذلك نكتفي منه بالقليل ومن شعره :
دع الأيام تفعل ما تشاء ****وطب نفسا إذا حكم القضاء
ولا تجزع لحادثة الليالي****فما لحوادث الدنيا بقاء
تستر بالسخاء فكل عيب****يغطيه كما قيل السخاء
ولا تر الأعادي قط ذلا****فإن شماتة الأعدا بلاء
ولا ترج السماحة من بخيل***فما في النار للظمآن ماء
ورزقك ليس ينقصه التأني***وليس يزيد في الرزق العناء
ولا حزن يدوم ولا سرور***ولا بؤس عليك ولا رخاء
إذا ما كنت ذا قلب قنوع****فأنت ومالك الدنيا سواء
ومن نزلت بساحته المنايا****فلا أرض تقيه ولا سماء
وأرض الله واسعة ولكن ***إذا نزل القضا ضاق الفضاء
دع الأيام تغدر كل حين ***فما يغني عن الموت الدواء
وله
أتهزأ بالدعاء وتزدريه****وما تدري بما صنع الدعاء
سهام الليل لا تخطي ولكن***لها أمد وللأمد انقضاء
وله
تموت الأسد في الغابات جوعا****ولحم الضأن تأكله الكلاب
عبد قد ينام على حرير *****وذو نسب مفارشه التراب
وله
خبت نار نفسي باشتعال مفارقي***وأظلم ليلي إذ أضاء شهابها
أيا بومة قد عششت فوق هامتي ***على الرغم مني حين طار غرابها
رأيت خراب العمر مني فزرتني ***وأواك من كل الديار خرابها
أأنعم عيشا بعدما حل عارضي****طلائع شيب ليس يغني خضابها
وعزة عمر المرء قبل مشيبه ****وقد فنيت نفس تولى شبابها
إذا اصفر لون المرء وابيض شعره***تنغص من أيامه مستطابها
فدع عنك سوءات الأمور فإنها ****حرام على نفس التقي ارتكابها
وأد زكاة الجاه واعلم بأنها *****كمثل زكاة المال تم نصابها
وأحسن إلى الأحرار تملك رقابهم***فخير تجارات الكرام اكتسابها
ولا تمشين في منكب الأرض فاخرا****فعما قليل يحتويك ترابها
ومن يذق الدنيا فإني طعمتها *****وسيق إلينا عذبها وعذابها
فلم أرها إلا غرورا وبهجة *****كما لاح في ظهر الفلاة سرابها
وما هي إلا جيفة مستحيلة ****عليها كلاب همهن اجتذابها
فإن تجتنبها كنت سلما لأهلها****وإن تجتذبها نازعتك كلابها
فطوبى لنفس أولعت قعر دارها***مغلقة الأبواب مرخى حجابها
ومن هؤلاء العلماء الشعراء الإمام عبد الوهاب البغدادي المالكي المتوفى سنة 422 هجرية ومن شعره
متى تصل العطاش إلى ارتواء ****إذا استقت البحور من الركايا
ومن يثني الأصاغر عن مراد****وقد جلس الأكابر في الزوايا
وإن ترفع الوضعاء يوما *****على الرفعاء من إحدى البلايا
إذا استوت الأسافل والأعالي ****فقد طابت منادمة المنايا
وله لما ضاقت حاله وخرج من بغداد إلى مصر وكانت بغداد أحب البلاد إليه لأنه نشأ بها فخرج منها بسبب الفقر وقال:
بغداد دار لأهل المال واسعة *****وللصعاليك دار الضنك والضيق
أصبحت فيها ملقى بين أظهرهم ****كأنني مصحف في بيت زنديق
وله فيها أيضا:
سلام على بغداد في كل موطن ****وحق لها مني السلام المضاعف
فوالله ما فارقتها عن قلى لها *****وإني بشطي جانبيها لعارف
ولكنها ضاقت علي بأسرها *****ولم تكن الأرزاق فيها تساعف
وكانت كخل كنت أهوى دنوه****وأخلاقه تنأى به وتخالف